مع تحكم الإعلام في كل ما يُسمع أو يُشاهد؛ أصبح الواقع في خطر، وأصبحت الحقيقة
تهددها وسائل الإعلام التي تقوم بعمل العين ، ونستطيع القول بأن
الواقع بدأ ينهار بالفعل ؛ لأن أفراد المجتمع أصبحوا يبنون تصوراتهم من خلال ما يُقرأ ويُسمع
ويُرى في وسائل العالم …
إننا نعيش في مجتمع كيّفه الإعلام؛ ووضع ملامحه، وتفاصيل العيش فيه، وأصبح كل واحد
منا يعيش حياته من خلال متابعة الشاشة التي تتحكم بمشاعره وأحاسيسه وقراراته
وتصرفاته …
وقد أثبتت إحدى أهم الدراسات: أن العقل هو الذي يتحكم بالمادة المقروءة، بينما الشاشة
هي التي تتحكم بالعقل.
أخطر ما في الأمر أيها الأخوة …
أن الواقع الافتراضي الذي يفرضه الإعلام والذين يتحكمون به يقدم نمطًا متكاملًا للحياة ، فمثلًا يقدم صناع الواقع الافتراضي نموذجًا للرجل العصري
الذي يريدون من رجال المجتمع أن يكونوا على شاكلته :
صفاته الجسدية، والأخلاقية، وتصفيفة شعره، ونوعية ملبسه، والعطر الذي يستخدمه،
والموسيقا التي يستمع إليها، والسيارة التي يركبها، والطريقة التي يتعامل فيها مع
أصدقائه، والكلمات التي يتلفظ بها، والحركات التي يقوم بها، وطريقة مشيه …
يعرض العالم صورة هذا الرجل بتكرار وتنوع عجيب لنفس النمط؛ ففي هذا الفيلم يُعرض
الرجل بهذه الصفات وهو يقوم بدور رجل شرطة مثلًا، وفي فيلم آخر يعرض الرجل بنفس
الصفات السابقة بدور طبيب، وفي فيلم آخر يعرضه بتلك الصفات ذاتها بدور بطل فنون
قتالية، وفيلم آخر يعرضه بتلك الصفات بدور معلم … وهكذا بتكرار عجيب حتى يظن كل من
يشاهد هذه الفيلم أن هذه هي الصورة الحقيقية والواقعية للرجل، وأنه يجب عليه أن يكون
هكذا والإ فهو متخلف؛ فيسعى لتقليدها بكل طاقته إرضاء لمن أراد له أن يكون كذلك.
وكذلك يُلعب بعقول النساء، والشباب المراهقين، والأطفال، والفتيات …
يُطلب منهم أن يكونوا بصورة معينة، وسلوك معين، ويأكلون ويلبسون، ويؤسسون
علاقاتهم بنمط معين … وإلا حُكم عليهم بأنهم غير عصريين أو متخلفين رجعيين …
والشخصيات التي يقدمها الواقع الافتراضي – والتي يعيش معها أبناؤنا يوميا – خيالية
يستحيل وجودها في عالم الحقيقة، إنها تمتلك من المواهب والخبرات المتنوعة، والقدرة
على تنفيذ المهام المستحيلة، والقوة الجسدية، والمظهر الخارجي، والأخلاق الحميدة ما
يستحيل أن يوجد حقيقةً في الواقع ….
والمشاهد المسكين لا حيلة له حين يرى هذه الشخصيات المزيفة بهذا التكرار الهائل الذي
يلامس إحساسه يوميًا؛ لا حيلة له إلا أن يتمنى أن يكون هو شخصيًا مثل هذه الشخصيات
ويمتلك مثل هذه المواهب من جهة، ومن جهة أخرى يتمنى أن يكون كل من حوله بهذه
الصفات؛ كزوجته أو أسرته أو أصدقائه … ولكن مع الأسف هي صفات مستحيلة لاوجود لها
في الواقع؛ لذلك تراه غير راضٍ عن نفسه ولا عَن مَن يعيشون معه فيقع في براثن الإحباط
والاكتئاب والعزلة عن الواقع الحقيقي والغرق في الواقع الافتراضي المزيف، متعلقاً بالوهم
والخيال، عاداته مختلفة، لباسه مختلف، كلامه مختلف، شكله مختلف، تصوراته، أهدافه،
طموحاته كلها في عالم آخر غير موجود في الحقيقة بل في الخيال والأحلام …